خلفية القصة: حاجة بني إسرائيل إلى قائد
بعد وفاة النبي موسى (عليه السلام)، وقع بنو إسرائيل في الضلال والضعف بسبب ابتعادهم عن شريعة الله، وتعرضوا لغزو الشعوب المجاورة. عانوا من هيمنة العمالقة (الكنعانيين) بقيادة ملكهم جالوت، الذي اضطهادهم واستولى على أراضيهم. فأدركوا حاجتهم إلى قائد عسكري قوي ينظم صفوفهم ويقودهم للانتصار على أعدائهم.
ذهب بنو إسرائيل إلى نبيهم آنذاك (ويُقال إنه النبي صموئيل أو صموئيل بحسب بعض الروايات) وطلبوا منه أن يسأل الله أن يعين لهم ملكًا يقودهم في القتال ضد جالوت وجيشه.
اختيار طالوت ملكًا رغم اعتراض بني إسرائيل
أوحى الله إلى نبيهم أن القائد الذي اصطفاه لهم هو طالوت، وهو رجل من نسل بنيامين، أحد أسباط بني إسرائيل. إلا أن بني إسرائيل اعترضوا على هذا الاختيار، قائلين:
“أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ” (البقرة: 247).
كان اعتراضهم مبنيًا على معيار مادي، إذ لم يكن طالوت من طبقة النبلاء أو الأثرياء، فكيف يكون ملكًا عليهم؟
رد النبي عليهم وعلامة الاصطفاء
أوضح النبي لهم أن الله اختاره بسبب علمه الواسع وقوته الجسدية، وليس بناءً على المال أو النسب. ولإزالة شكوكهم، أعطاهم الله آية التابوت، حيث أخبرهم النبي أن الملائكة ستأتي بالتابوت إليهم، وهو الصندوق المقدس الذي كان يحمله بنو إسرائيل منذ زمن النبي موسى (عليه السلام).
التحق هذا التابوت ببني إسرائيل بطريقة إعجازية، وكان يحتوي على بقايا مقدسة من عهد موسى وهارون، مثل عصا موسى وألواح التوراة. كان هذا دليلًا على أن طالوت هو الملك الشرعي المختار من قبل الله.
“وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ” (البقرة: 248).
استعداد طالوت وجيشه للاختبار الإلهي
بعد قبول بني إسرائيل لطالوت ملكًا، جهز جيشًا وخرج بهم للقاء جيش جالوت. لكنه أخبر جنوده أن الله سيختبرهم ليعرف المؤمن الصادق من المتخاذل. أثناء المسير، مروا بنهر (يُقال إنه نهر الأردن أو نهر آخر)، وأمرهم طالوت بألا يشربوا منه إلا جرعة صغيرة، كاختبار لمدى طاعتهم:
“ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ” (البقرة: 249).
لكن غالبية الجيش لم تلتزم، وشربوا حتى ارتووا، ولم يبقَ مع طالوت إلا فئة قليلة من المؤمنين الذين أطاعوا أمره.
مواجهة الجيشين وخروج داوود لمبارزة جالوت
عندما واجه الجيشان بعضهما، شعر البعض بالخوف بسبب قوة جيش جالوت، لكن المؤمنين ثبتوا قائلين:
“وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ” (البقرة: 248).
هنا ظهر الفتى داوود (عليه السلام)، الذي لم يكن معروفًا بين بني إسرائيل حينها. كان راعيًا صغيرًا يمتلك مهارات فائقة في استخدام المقلاع. تقدم داوود ليقاتل جالوت في مبارزة فردية، فوافق الملك طالوت على ذلك، وألبسه درع موسى، لكن الدرع كان واسعًا عليه، فألقاه داوود جانبًا.
مقتل جالوت على يد داوود (عليه السلام)
تقدم داوود إلى ساحة القتال، بينما كان جالوت مزهوًا بقوته وسلاحه الثقيل. ولكن داوود، بثقته بالله، استخدم مقلاعه ورمى حجرًا أصاب رأس جالوت مباشرة، فسقط الملك الجبار صريعًا.
هذا الحدث قلب موازين المعركة، حيث دبَّ الرعب في جيش جالوت، واندحروا أمام جيش طالوت.
“فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ” (البقرة: 251).
انتصار بني إسرائيل وملك داوود (عليه السلام)
بعد هذا الانتصار، أصبح داوود معروفًا بين بني إسرائيل، وبعد وفاة طالوت، ورث داوود الملك، وجعله الله نبيًا، ومنحه الحكمة والقدرة على القضاء بين الناس بالعدل.
الرؤية العقائدية الشيعية للقصة
في الفكر الشيعي، تُستخدم هذه القصة لتأكيد مبدأ الاصطفاء الإلهي في تعيين القادة الشرعيين. فكما أن طالوت لم يكن من السلالة الملكية، لكنه اختير بعلم الله، فإن الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) تم اختيارهم من قبل الله رغم اعتراض البعض.
كذلك، يُستشهد بالقصة في بيان أن الحق لا يُقاس بالكثرة أو القوة المادية، بل بالتقوى والإيمان، كما انتصر داوود رغم أنه كان مجرد شاب صغير مقابل ملك ظالم قوي مثل جالوت.
كما أن اختبار طالوت بالنهر يُشبه الابتلاءات التي يمر بها أتباع الحق، حيث يُميّز الله الصادقين من المتخاذلين.
خاتمة القصة والعبرة منها
تُبرز قصة طالوت وجالوت عدة دروس:
- الله هو من يختار القادة الشرعيين، وليس البشر.
- القيادة لا تعتمد على المال أو النسب، بل على التقوى والعلم.
- الابتلاءات تكشف المؤمنين الحقيقيين، كما حصل في اختبار النهر.
- النصر لا يعتمد على العدد والقوة، بل على الإيمان والصبر.
- الله يرفع من يشاء، ولو كان راعيًا صغيرًا، كما رفع داوود إلى مرتبة النبوة والملك.
🔹 المصادر
تفسير القرآن للسيد هاشم البحراني.
تفسير نور الثقلين للحويزي.