كم مرة هدموا «قبور أئمة البقيع»؟!

السيد حسن العلوي

إنَّ دينَ الوهابيّةِ قائمٌ على مُحاربةِ القبور، فما يرتبطُ بالقبور – ما عدا الزيارةِ – فهوَ محظورٌ عندَهم، إمّا بدعةً وإمّا كُفراً وإمّا شركاً.

وعندَ مُطالعةِ تاريخِ الوهابيّةِ لا نجدُ غيرَ الغزوِ لبُلدانِ الإسلام، وتكفيرِ المُسلمين، واحتلالِ أراضي المُسلمين، وإراقةِ دمائهم المعصومةِ، وأوّلُ همّهم هوَ الإغارةُ على قبورِ المُسلمين والقبابِ التي بُنيَت عليها، فيقومونَ بهدمِها وتدميرِها، فنجدُ أوّلَ قبّةٍ قد هُدمَت هيَ القبّةُ الموضوعةُ على قبرِ زيدٍ بنِ الخطّاب، في اليمامةِ، بمقبرةِ الجبيلةِ، حيثُ قامَ محمّدٌ بنُ عبدِ الوهابِ بنفسِه بهدمِها، بمعونةِ حاكمِ العيينةِ عثمانَ بنِ حمدٍ بنِ معمر. (عنوانُ المجدِ في تاريخِ نجد، للمؤرّخِ الوهابيّ ابنِ بشر: 1 / 39).

وقد اعترفَ ابنُ عبدِ الوهابِ في رسالتِه لأهلِ مكّةَ التي أرسلَها سنةَ 1204 هـ أنّ ممّا نقمَ عليهِ المُسلمونَ وثارَت الفتُن لأجلِها هدمُه لقبورِ الصالحينَ. (عنوانُ المجد: 1 / 171).
وقد دوّنَ مؤرّخُهم الكبيرُ عُثمانُ بنُ عبدِ الله بنِ بشر (المولودُ سنةَ 1210 هـ ، والمتوفّى سنةَ 1290 هـ) كتابَ عنوانِ المجدِ في تاريخِ نجد، وكانَ مُعاصراً لظهورِ هذهِ الدّعوة، وأرّخَ لها مِن بدايةِ ظهورِها، إلى سنةِ 1268 هـ .
يقولُ عن هذهِ الدعوة: وسارَت عمّالُهم إلى جميعِ الأعراقِ في الشام، والعراقِ واليمنِ وأقصى الحجاز، إلى ما وراء الينبع، إلى دونَ مصرَ إلى عدن، وما دونَ البصرة، والبحرين وأقصى عُمان، وكذا ما احتوَت عليه هذه الجزيرةُ منَ العربان، فيقبضونَ منهم الزكاةَ بالكمالِ، ويضربونَ مَن تعدّى، أو تخلّفَ عن الجهادِ، ويأخذونَ مِن مالِه النكال، وهدموا القبابَ والمواضعَ الشركيّة في تلكَ الأقطار. (عنوانُ المجد: 1 / 28).

فمِن أوجبِ الواجباتِ وأهمِّ الأعمالِ عندَهم هدمُ القبابِ التي على القبور.

وقالَ عن سنةِ وفاةِ محمّدٍ بنِ عبدِ الوهاب ( 1206 هـ ) مُترجِماً له: وهدمَ المُسلمونَ ببركةِ علمِه جميعَ القبابِ والمشاهدِ التي بُنيَت على القبور، وغيرِها مِن جميعِ المواضعِ المُضاهيةِ لأوثانِ المُشركينَ في أقاصي الأقطارِ منَ الحرمينِ وتُهامة واليمنِ وعُمان والإحساءِ وقُرى نجد، وغيرِ ذلكَ منَ البلاد. (عنوانُ المجد: 1 / 182 – 183).

وفي هذا النصِّ نلاحظُ أنّه إلى زمانِ تأليفِ كتابِ عنوانِ المجدِ قد قامَ الوهابيّةُ بهدمِ القبابِ والقبورِ في جميعِ الأقطارِ الإسلاميّة التي كانَت تحتَ سيطرتِهم أو التي غزوها، حتّى القبابَ التي في مكّةَ والمدينةِ المنوّرة.

وفي سنةِ 1207 هـ: هجموا على الإحساءِ وهدموا جميعَ ما فيها منَ القبابِ، والمشاهدِ التي على القبور. (عنوانُ المجد: 1 / 202).

وفي سنةِ 1216 هـ: هجموا على كربلاءَ المُقدّسةَ عنوةً وقتلوا أغلبَ أهلِها في الأسواقِ وهدموا القبّةَ التي على قبرِ الإمامِ الحُسين (ع) وسرقوا ونهبوا جميعَ ما فيها، وسرقوا النصيبةَ التي على القبرِ وكانَت مرصوفةً بالزمرّدِ والياقوتِ والجواهر، وسرقوا ونهبوا كربلاء. (عنوانُ المجد: 1 / 257).

وفي سنةِ 1217 هـ: هدموا جميعَ القبابِ التي بُنيَت على القبورِ والمشاهدِ في مكّةَ المُكرّمة، وكانَت مكّةُ مليئةً بالقبابِ والمشاهدِ المُشرّفة، بحيثُ استغرقَت مُدّةُ الهدمِ بضعةَ عشرَ يوماً، يباكرُ الوهابيّةُ منَ الصباحِ في هدمِها إلى الليل. (عنوانُ المجد: 1 / 263).

وقالَ الجبرتي: إنَّ عبدَ العزيزِ بنَ مسعودٍ الوهابي دخلَ إلى مكّةَ مِن غيرِ حربٍ … وأنّه هدمَ قبّةَ زمزمَ والقبابَ التي حولَ الكعبةِ والأبنيةَ التي أعلى منَ الكعبة. (عجائبُ الآثارِ للجبرتي: 2 / 585).

وفي سنةِ 1218 هـ: هجموا على مدينةِ البصرة، وهدموا جميعَ القبورِ والقبابِ التي في الزبير، ومِنها القبّةُ التي على قبرِ الحسنِ البصري، وطلحةَ بنِ عُبيدِ الله. (عنوانُ المجد: 1 / 280).

هدمُ قبورِ وقبابِ البقيعِ في المدينةِ المنوّرة:

الهدمُ الأوّل ( سنةَ 1220 هـ – 1805 م ):

ذكرَ جماعةٌ منَ المؤرّخينَ أنّ الوهابيّةَ والدولةَ السعوديّةَ الأولى، لمّا سيطروا على المدينةِ المنوّرة، بعدَ حصارٍ خانقٍ دامَ سنين، كما يقولُ ابنُ بشر، أو سنةٍ ونصف، كما يقولُ الجبرتي، فاضطرَّ أهالي المدينةِ المنوّرةِ إلى تسلميها لسعود، فأوّلُ فعلٍ قاموا به هوَ هدمُ جميعِ القبابِ والقبورِ في المدينةِ المنوّرة، ما عدا القبّةِ التي على قبرِ رسولِ الله (ص)! وذلكَ سنةَ 1220 هجري.

ـ قالَ مؤرّخُ البلاطِ الوهابي عثمانُ بنُ عبدِ الله بنِ بشر (ت 1270 هـ): وفي أوّلِ هذهِ السنةِ – قبلَ مُبايعةِ غالب – بايعَ أهلُ المدينةِ المنوّرةِ سعوداً على دينِ اللهِ ورسولِه والسمعِ والطاعة، وهُدمَت جميعُ القبابِ التي وضعَها على القبورِ والمشاهد، وذلكَ أنّ آلَ مضيان رؤساء حربٍ وهُما بادي وبداي أبناء بدوي بنِ مضيان ومَن تبعَهم مِن عربانِهم، أحبّوا المُسلمينَ (ويقصدُ الوهابيّة) ووفدوا على عبدِ العزيزِ وبايعوه، وأرسلَ معهم عثمانَ بنَ عبدِ المُحسن أبا حسين، يعلّمُهم فرائضَ الدينِ ويقرّرُ لهم التوحيدَ! فأجمعوا على حربِ المدينة، ونزلوا عواليها، ثمَّ أمرَهم عبدُ العزيز ببناءِ قصرٍ فيها، فبنوهُ وأحكموه واستوطنوه، وتبعَهم أهلُ قبا ومَن حولهم وضيّقوا على أهلِ المدينة، وقطعوا عنهم السوابل، وأقاموا على ذلكَ سنيناً ! وأرسلَ إليهم سعودٌ وهُم في موضعِهم ذلكَ الشيخُ العالمُ قرناس بنُ عبدِ الرحمن صاحبُ بلدِ الرسِّ المعروفِ بالقصيم، فأقامَ عندَهم قاضياً مُعلّماً كلَّ سنةٍ يأتي إليهم في موضعِهم ذلك، فلمّا طالَ الحصارُ على أهلِ المدينة، وقعَت المكاتباتُ بينَهم وبينَ سعودٍ وبينَ حسن قلعي وأحمد الطبار والأعيانِ والقُضاة، وبايعوا في هذهِ السنة. (عنوانُ المجدِ لابنِ بشر: 1 / 288، حوادثُ سنة 1220هـ).

ـ وقالَ الجبرتي (ت 1237 هـ): وفيهِ وردَت الأخبارُ بأنَّ الوهابيّينَ استولوا على المدينةِ المنوّرةِ على ساكنِها أفضلُ الصلاةِ وأتمُّ التسليم، بعدَ حصارِها نحوَ سنةٍ ونصف مِن غيرِ حرب، بل تحلّقوا حولَها وقطعوا عنها الواردَ، وبلغَ الأردبُ الحنطةَ بها مائةَ ريالٍ فرانسة، فلمّا اشتدَّ بهم الضيقُ سلّموها، ودخلَها الوهابيّونَ، ولم يُحدثوا بها حدثاً غيرَ منعِ المُنكرات، وشربِ التنباكِ في الأسواق، وهدمِ القبابِ ما عدا قبّةِ الرسولِ (ص). (عجائبُ الآثارِ للجبرتي: 3 / 91 ، وفي طبعةٍ أخرى: ص549، حوادثُ سنةِ 1220 هـ.)

وقالَ حسن الريكي واصفاً عهدَ سعود: ثمَّ إنّه رتّبَ في المدينةِ أحداً مِن آلِ سعود، وخرجَ إلى البقيعِ يريدُ نجداً، فأمرَ بتهديمِ كلِّ قبّةٍ كانَت في البقيعِ، وتلكَ القببُ قبّةُ الزهراءِ فاطمة بنتِ الرسولِ (ص)، وقبّةُ الحسنِ بنِ عليّ رضيَ اللهُ عنه، وقبّةُ عليٍّ بنِ الحُسين رضيَ اللهُ عنه، وقبّةُ محمّدٍ الباقرِ، وقبّةُ جعفرٍ الصادقِ، وقبّةُ عثمانَ رضيَ اللهُ عنهم جميعاً. ثمَّ سارَ إلى أحدٍ وهوَ جبلٌ يقربُ منَ المدينةِ على فرسخٍ مِن جهةِ الشرق، وهناكَ قبرُ الحمزةِ، عمِّ رسولِ الله (ص) وعليهِ قبّةٌ كبيرةٌ، ثمَّ أمرَ بتهديمِها. (لمعُ الشهابِ في سيرةِ محمّدٍ بنِ عبدِ الوهاب، ص187).

ـ ويصفُ المُستشرقُ بوركهارت حالَ مقبرةِ البقيعِ سنةَ 1815 م وذلكَ بعدَ عشرِ سنواتٍ مِن هدمِها حيثُ يقول: هذهِ المقبرةُ ليسَ فيها قبرٌ واحدٌ جيّدٌ، وليسَ فيها أيُّ شاهدٍ مِن شواهدِ القبورِ التي تحملُ النقوشَ والكتابات، ونجدُ بدلاً عن تلكَ الشواهدِ أكواماً منَ الطينِ لها حوافٌّ منَ الأحجارِ السائبةِ الموضوعةِ حولَ تلكَ الأكوام. الوهابيّونَ مُتّهمونَ بتشويهِ هذه المقابرِ، والشاهدُ على ذلكَ بقايا القبابِ الصغيرةِ والبناياتِ الصغيرة، التي كانَت مِن قبلُ تغطّي قبرَ عُثمانَ وقبرَ العبّاس، وقبرَ السيّدةِ فاطمة، وكذلكَ عمّاتِ النبيّ محمّد، اللاتي دُمّرَت قبورهنَّ بأيدي الوهابيّين، لكنَّ الوهابيّينَ لم يقربوا القبورَ البسيطةَ الأخرى المبنيّةَ منَ الحجر، وهذا هوَ ما فعلَه الوهابيّونَ أيضاً في كلٍّ مِن مكّةَ والأماكنِ الأخرى … المكانُ كلّه عبارةٌ عن أكوامٍ غيرِ مُنتظمةٍ منَ الطين، وحفرٍ واسعةٍ، وأكوامٍ منَ النفايات، ولا يوجدُ في المقبرةِ كلّها حجرٌ واحدٌ مِن أحجارِ شواهدِ القبور. (ترحالٌ في الجزيرةِ العربية، جون لويس بوركهارت: 2 / 145، ترجمةُ: صبري محمّد حسن).

ـ ثمَّ وصفَ لنا مُشاهداتِه لجبلِ أحد، قالَ: وكانَ الوهابيّونَ قد أطاحوا بقبّةِ ذلكَ المسجد، لكنّهم أبقوا على القبرِ، والمسجدُ يضمُّ قبرَ سيّدنا حمزة، وقبورَ كبارِ رجالاتِه الذينَ قُتلوا معَه في معركةِ أحد، وبخاصّةٍ مصعبَ بنَ عُمير، جعفراً بنَ شمّاس، وعبدَ اللهِ بنَ جحش، المقابرُ موجودةٌ في فناءٍ مكشوف، وهيَ مثلُ مقابرِ البقيعِ عبارةٌ عن أكوامٍ منَ الطين، حولها بعضُ الأحجارِ السائبة … معَ الاقترابِ أكثرَ مِن جبلِ أحد، توجدُ قبّةٌ صغيرةٌ تُحدّدُ المكانَ الذي رُميَ فيه محمّدٌ (ص) بحجرٍ في إحدى المعارك، الأمرُ الذي أدّى إلى إسقاطِ أربعٍ مِن أسنانِه الأماميّة، وجعلِه يسقطُ على الأرض، وظنَّت جماعةٌ أنّه قُتل، وعلى مقربةٍ مِن تلكَ القبّةِ التي جرى تدميرُها مثلُ سائرِ القبابِ الأخرى، توجدُ مقابرُ إثني عشرَ آخرينَ مِن أتباعِ النبي (ص) الذينَ قُتلوا معهُ في المعركة، هذهِ القبورُ جميعُها تكونُ أكواماً عدّةً منَ الأحجارِ والنفايات، التي لا يمكنُ تمييزُ القبورِ مِن خلالها. ( ترحالٌ في الجزيرةِ العربيّة، جون لويس بوركهارت: 2 / 148 – 149، ترجمةُ: صبري محمّد حسن).

ـ محاولةُ هدمِ القبّةِ النبويّة:

نقلَ بعضُ المؤرّخينَ المُعاصرينَ لتلكَ الحادثةِ أنَّ لسعودٍ الحاكمِ الوهابيّ محاولةٌ لهدمِ القبّةِ الموضوعةِ على قبرِ النبي (ص) ولكنّه لم يستطِع هدمَها، قالَ بوركهارت: قامَ سعودٌ بعدَ ذلكَ مباشرةً بزيارةٍ للمدينةِ المنوّرة، وأمرَ بتجريدِ قبرِ مُحمّدٍ (ص) منَ الأشياءِ الثمينةِ التي كانَت على القبرِ إلى ذلكَ اليوم، وحاولَ سعودٌ أيضاً تحطيمَ القبّةِ المُقامةِ فوقَ القبر. (ملاحظاتٌ عن البدوِ والوهابيين: 2 / 118).

ـ إعادةُ إعمارِ ما دمّرَه الوهابيّةُ في مكّةَ والمدينة:

تنصُّ الوثائقُ التاريخيّة أنّه بعدَ انتصارِ محمّد علي باشا، وتخليصِ مكّةَ والمدينة مِن سيطرةِ الوهابيّة، توجّهَ مجموعةٌ منَ الحرفيّينَ والصنّاعِ مِن استانبول إلى مكّةَ المُكرّمة والمدينةِ المنوّرة، لإصلاحِ التخريباتِ التي أحدثَها الوهابيّون. (العثمانيونَ وآلُ سعود في الأرشيفِ العُثماني، زكريّا قورشون، ص92).

وأعادَ المُسلمونَ بناءَ القبورِ والقبابِ التي هُدمَت في مكّةَ والمدينةِ، وقد جاءَ وصفُها في كتاباتِ العديدِ منَ الرحّالةِ والعُلماء، لاحِظ: رحلةَ بيرتون إلى مصرَ والحجاز، لريتشارد بيرتون، الجزءُ الثاني. وكتابُ مرآةِ الحرمين، لإبراهيم رفعت باشا: 1 / 425 – 426. وقد نصَّ في هذا على رحلتِه هذه التي كانَت سنة 1318 هجري، أنَّ جملةً مِن هذهِ القبابِ في البقيعِ بناها السُّلطانُ محمود سنةَ 1233 هجري. ولاحِظ كتابَ البقيعِ للمُهندس يوسف الهاجري، ص90 وما بعد.

الهدمُ الثاني: (8 شوّال 1344 هـ – 1925 م):

حيثُ هدمَ آلُ سعود بعدَ قيامِ دولتِهم الثالثة، القبابَ والمشاهدَ في مكّة والمدينة، بعدَ أن وجّهوا إلى المدينةِ قاضي القُضاة عبدَ اللهِ ابنَ بلهيد، وبدورِه وجّهَ سؤالاً إلى علماءِ المدينةِ يسألهم عن حُكمِ القبابِ المبنيّةِ على القبور؟ ليجعلَها ذريعةً لفعلِه، ويُعطيَ غطاءً شرعيّاً لفعلتِهم الشنيعة.

فهدموا جميعَ القبورِ والقبابِ في البقيع.

{ وَسَيَعلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ }

Translate »